رأس المال في دستور 2013 غياب أقوى من الحضور

[???? ?????? ?????] [???? ?????? ?????]

رأس المال في دستور 2013 غياب أقوى من الحضور

By : Tamer Wageeh تامر وجيه

 

النظر بشكل مدقق في مشروع دستور 2013 يُعلِّمنا الكثير بشأن الانحيازات الاجتماعية/ الطبقية المُتضمَّنة، والمسكوت عنها، في هذا المشروع. في هذا المقام نحاول أن نستكشف موقف المشروع المطروح للاستفتاء إزاء الطبقة الرأسمالية ونظام السوق الحر الذي يجسّد في المرحلة التاريخية الراهنة الإطار التنظيمي الحاكم لنشاط تلك الطبقة. 

الدستور والمواطن والجماعة

كمبدأ عام، تتوجه الدساتير بتكليفاتها والتزاماتها إما إلى "الدولة" أو إلى "المواطنين الأفراد". يمكننا تتبع جذر هذا المنهج في نظرية الحق البرجوازية الحديثة التي تفترض بزوغ المجتمع المدني – بالمعنى الهيجلي الكلاسيكي للكلمة – بوصفه مجال المصالح الخاصة الذي يدور فيه صراع بين "مواطنين" متساوي الأهلية يحظون جميعاً بالشخصية القانونية الاعتبارية. هنا يكون دور الدستور، بوصفه قانون القوانين، هو تنظيم العلاقة بين الذوات الفردية المتصارعة والمتنافسة للمواطنين ذوي الشخصيات الاعتبارية الخاصة، وبينهم جميعاً وبين الدولة الحديثة بوصفها تُمثِّل تجسيداً للصالح العام، أو باعتبارها الشخصية الاعتبارية العامة التي تحل، في وجودها المادي، تناقضات المجتمع المدني من حيث أدائها لمهمة التوحيد الوظيفي والحقوقي لما يستحيل توحيده بدونها بعد أن انحلّت، أو كادت، الروابط العضوية السابقة على المجتمع الحديث.

على أن الدساتير الحديثة، ما يُطلق عليه "الأجيال الثانية والثالثة للدساتير"، تنحو كذلك إلى الحديث أكثر فأكثر عن فئات أو جماعات من المواطنين، ليس على اعتبار أن هذا بالضرورة نقض لفكرة تأسيس القانون الحديث على التجريد المسمى بـ"المواطن الفرد"، ولكن على اعتبار أن التحقق الأمثل للمواطنة – أي للتجريد الفردي للشخصية القانونية الاعتبارية – يتطلب من ضمن ما يتطلب تأسيس حقوق خاصة لفئات اجتماعية لا يمكن ضمان مساواتها مادياً وعملياً بباقي المواطنين دون ضمانات قانونية تخصها.

وقد سار مشروع دستور 2013 على هذا المنوال بحديثه المفصّل عن فئات كثيرة من المواطنين الذين يتطلب التحقق الكامل لمواطنتهم التأسيس لحقوق خاصة لهم. فالمشروع الذي بين أيدينا تحدث في مواده المختلفة عن "العمال"، و"العمال الزراعيين"، و"الموظفين"، و"الفلاحين"، و"صغار الفلاحين"، و"صغار الحرفيين"، و"العمالة غير المنتظمة"، و"الصيادين" كقوى اجتماعية لها من الحقوق ما يستوجب تجاوز الحديث العمومي عن حقوق المواطنين في تجريده العام. وهو كذلك تحدث عن "الأطباء"، و"هيئات التمريض"، و"المعلمين"، و"الباحثين"، و"المخترعين"، و"المبدعين" كفئات وظيفية وكأدوار في التقسيم الاجتماعي للعمل لها من الحقوق وعلى الدولة تجاهم من الالتزامات ما يستوجب حديثاً منفرداً. وهو كذلك تحدث عن "النساء"، و"الأمهات"، و"النساء المعيلات"، و"الأطفال"، و"ذوي الإعاقة"، و"الأٌقزام"، و"الشباب"، و"النشء"، و"المسنين"، و"المسيحيين"، و"اليهود"، و"أصحاب الديانات السماوية"، و"أهل المناطق الحدودية والمحرومة"، و"أهل البادية والريف"، و"سكان النوبة" بوصفهم فئات جنسية/ عمرية/ جغرافية/ إثنية/ ثقافية مضطهدة أو مميز ضدها أو لها خصوصية تستحق دسترة حقوقها أو تحديد التزاماتها، سواء لتقييد مواطنتها الكاملة كما هو الحال بالنسبة للمسيحيين أو اليهود، أو لتقنين نوع من التمييز الإيجابي لصالحها كوسيلة للتأسيس لمواطنتها الكاملة التي تنتقص منها عمليات التجاذب الجارية في المجتمع المدني وفرزه الداخلي لقواه المختلفة. 

غياب أقوى من الحضور

هل تلاحظون نقصاً ما؟ هل هناك شيء ما غائب أو مسكوت عنه؟ نعم، بالضبط، إنهم الرأسماليون أو المستثمرون أو رجال الأعمال، على حسب ما تحب أن تسميهم. فلقد صمت الدستور تماماً بخصوص هذه الفئة/الطبقة. لا شيء، في حدود قراءاتي المتعددة للنص، يخص هؤلاء، حقوقهم، واجباتهم، التزاماتهم، أو الإطار القانوني الذي يحكم نشاطهم. لا شيء، لا شيء البتة.

هذا أمر يثير الدهشة، ثم التأمل، خاصة وأنه يتعلق بدستور دولة كانت السمة الأكثر أهمية لتاريخها القريب هي الصعود المهيب، أو البائس، لحيتان رجال المال والأعمال واستئثارهم المتزايد بالمساحات الأوسع والأكثر نفوذاً في الفضاء الاقتصادي، وكذلك الاجتماعي والسياسي. فلماذا لا يظهر هؤلاء في نصوص دستورنا بصفتهم قوة اجتماعية تستحق تنظيم نشاطها في إطار دولة القانون والمواطنة، مثلها في ذلك مثل أبناء الطبقات الكادحة كالعمال والفلاحين والصيادين والحرفيين، أو أبناء الطبقة الوسطى من أطباء ومعلمين وغيرهم، أو بيروقراطية الدولة ورجال أجهزتها الأمنية من الموظفين إلى القضاة إلى رجال الشرطة والجيش؟ بل لماذا لا يظهر حتى مجال نشاطهم – أعني القطاع الخاص – إلا في عبارة أو عبارتين عابرتين داخل الدستور وبشكل لا يشرح شيئاً أو يضبط حقاً؟

لا أظن أن أحداً سيعتقد، ولو لوهلة، أن غياب الرأسماليين أو رجال الأعمال عن الدستور يمثل إهداراً لحقوقهم أو انتقاصاً منها! فالحق أن هذا الغياب، على العكس، أقوى من الحضور، بل هو الغياب الذي يمثل حضوراً أقوى من كل وأي حضور. فالافتراض الضمني الذي يعكسه هذا الغياب هو ترك تغوّل هذه الطبقة في الواقع المادي الملموس على حاله دون أي تنظيم أو تأطير أو حدود.

ولفهم ما نقول نذكّر أن الدساتير، والقوانين عامة، تمثل نتاج تفاوض بين قوى اجتماعية/ سياسية في لحظة تاريخية ما على إحداث تغيير ما في موازين القوى السابقة لتلك اللحظة التي تم تضمينها في دساتير أو قوانين يتم تعديلها بما هو جديد من نصوص قيد التفاوض. فلما يهمل الدستور، جزئياً أو كلياً، تحديد أوضاع قوة ما وعلاقاتها بباقي القوى، فهو بذلك يترك هذا التحديد لمسار الواقع وصراعاته. فلو كانت هذه القوة متغّولة وذات هيمنة، فإن الإهمال يعني تحبيذ الإمعان في هيمنتها، ولو كانت مُتَغَوَّلاً عليها والهيمنة واقعة عليها، فإن الإهمال يعني تحبيذ استمرار الهيمنة الواقعة عليها.

ولما كنا نتحدث عن قوة اجتماعية – نعني رأس المال – ميزت نفسها، وميزتها الدولة، على مدى عقود وعقود بالهيمنة، الكاملة تقريباً، على القرار الاقتصادي، وببعض الهيمنة على القرار السياسي، فإن الإهمال المفضوح في دستور 2013، وسابقه، لتنظيم وتحجيم أدوارها، هو بالقطع تحبيذ لاستمرار هيمنتها، بل وامتدادها إلى مجالات ومستويات أخرى.

من يدفع ثمن الرفاهة؟

قد يرى البعض أن طريقة مشروع الدستور الحالي في تحجيم هيمنة رأس المال هي تعظيم حقوق القوى المضادة له في الصراع الاقتصادي والاجتماعي. بتعبير آخر: قد يرى البعض أن تحديد وتعظيم حقوق العمال والفلاحين، وحقوق المستهلكين، وحقوق المواطنين بشكل عام، هو طريق هذا المشروع لكبح تغوّل رأس المال. فمثلاً قد يكون نص مشروع الدستور على ضرورة تحديد حد أدنى للأجور لكل العاملين بأجر، وضرورة تحديد حد أقصى للأجر للعاملين في الدولة والقطاع العام، ونصه على تعظيم الإنفاق العام في مجالات كالصحة والتعليم والتعليم العالي والبحث العلمي، ونصه على شمول التأمين الصحي لكافة المواطنين وعلى مجانية التعليم الأساسي وعلى إلزام الدولة بتوفير خدمات التأمين الاجتماعي وعلى سعيها إلى شموله الفلاحين والصيادين وغيرهم من الفئات المستضعفة، ونصه على تصاعدية الضرائب حسب شرائح الدخول، قد يكون نص الدستور على كل هذا هو الطريق إلى إعادة توزيع الثروة عبر أدوات السياسة المالية العامة في مجالي الإنفاق والضرائب. لكن الحقيقة هي على خلاف ذلك، كما سنرى فيما يلي. 

فما ينص عليه الدستور هنا في أغلبه، باستثناء تصاعدية الضرائب بالأساس، وهي مسألة سنتحدث فيها لاحقاً، هو التزامات على الدولة وليست على رأس المال. بعبارة أخرى: يفرض هذا الدستور على الدولة التزامات لتحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية، لكنه لا يفرض على رأس المال أي التزام حقيقي لتمويل التزامات الدولة المتضخمة في مجال الإنفاق الاجتماعي. وهو في هذا أمين لمنطق داخلي يتخلل ثناياه، وهو تبني نظام السوق الحر واعتباره قدساً للأقداس لا يمكن المساس به أو الاقتراب منه.

لكن لما كانت الدولة في عصر السوق الحر ليست مالكة للثروة أو منتجة اقتصادياً، وإنما مقيد دورها بتحويل الدخل من طبقة إلى طبقة عبر أدوات السياسة المالية والنقدية، فإن السؤال يصبح: وكيف إذن ستمول الدولة التزاماتها المتضخمة بنص الدستور مع امتناع هذا الدستور نفسه عن إجبار رأس المال على التنازل عن جزء من عائده، ربحاً أو ريعاً أو فائدة، لتمويلها؟ 

الضرائب التصاعدية

هنا تقفز الإجابة النمطية: من خلال الضرائب. فمع النص على أن الضرائب التصاعدية هي إحدى أدوات السياسة الضريبية لأول مرة في مشروع دستور 2013، قد يرى البعض أنه من المتوقع أن يمول رأس المال، من خلال الضرائب التي سيدفعها، التحسين الذي تفترضه الحقوق المنصوص عليها في الدستور في مجالات كالصحة والتعليم والحد الأدنى للأجر وغيرها.

لكن الحقيقة أن هذا أمر ليس له أي سند من واقع أو منطق. فتقرير البنك الدولي الأخير عن معدلات الضريبة المدفوعة في البلدان المختلفة يقول إن معدل الضريبة الكلية المدفوعة على الأرباح في مصر يصل إلى 13.2%، بينما يصل مثيله على العمل إلى 25.8%، أي أن العمل يدفع نسبة أكبر بكثير من عائده كضرائب إذا ما قورن برأس المال. هذا طبعاً مع الوضع في الاعتبار أولاً أن عائد العمل في مصر يتراجع، تقريباً بشكل متواصل، منذ عام 1980 وحتى اليوم (حيث تناقص من 36.2% في 1980-1981 إلى 25.4% في 2006-2007)، وثانياً، وكبديهية، أن عائد العمل يختلف في طبيعته نوعياً عن عائد رأس المال، فالأول هو وسيلة للعيش والثاني هو وسيلة للتراكم والإنفاق الترفي. وهذا معناه أن واقع الحال في مصر هو أن الممول الضريبي الأكبر، من ثم ممول البرامج الحكومية الاجتماعية الأكبر، هو أصحاب قوة العمل، وذلك رغم أن دخلهم الضئيل لا يمكنه الوفاء ، في أغلب الأحيان، بضروريات الحياة، ورغم أن نسبتهم من الدخل القومي كانت تنخفض بشكل مطرد على مدى الثلاثين عاما الماضية.

فهل ستغير مادة ضعيفة وغير مفصّلة تقول إن "الضرائب على دخول الأفراد تصاعدية متعددة الشرائح وفقاً لقدراتهم التكليفية" من هذه الأوضاع المتدهورة؟ الحقيقة أن هذا أمر ليس فقط مستبعداً، بل في حكم المستحيل. فتوازن القوى الراهن بين العمل ورأس المال، كما نراه جميعاً على الأرض، سيفرض نفسه عند تفعيل هذه المادة في صورة قانون ضريبي. لا يرجع هذا فقط إلى ما هو مثبت من ميل الدولة بشكل متعاظم على مدى السنوات الخمسة عشرة الأخيرة إلى تحبيذ أداة الضرائب غير المباشرة كضريبة المبيعات – وهي الضريبة المعادية للعدالة الاجتماعية كما هو معروف – كأداة رئيسية من أدوات الجباية، بل يرجع كذلك إلى كون تجربة مصر مع الضريبة التصاعدية كانت مخزية وغير ذات معنى، بحيث أصبحت الضريبة التصاعدية مجرد أداة رمزية لا قيمة لها لاتساع الشرائح وتفاهة الزيادة في السعر. من هنا فإن التوقع المنطقي هو أن النص الدستوري على تصاعدية الضرائب سوف يُترجم إلى قانون لا يغيّر كثيراً من واقع توزيع العبء الضريبي بين العمل ورأس المال، ناهيك عن كونه قادراً على إحداث تغيير حقيقي في هيكل توزيع الدخل في المجتمع.

العمل في مواجهة رأس المال

فإذا كانت الضريبة التصاعدية المنصوص عليها دستورياً لن تكون أداة لكبح رأس المال، أو بالأحرى للاقتطاع من أرباحه لمصلحة إنفاق اجتماعي يساهم في إعادة توزيع الدخل بشكل أكثر عدالة، فما هي الأدوات الأخرى التي يمكن التأمل في قيامها بكبح رأس المال؟ يقول التاريخ الاجتماعي للصراع بين العمل ورأس المال إن أداة أخرى من أدوات كبح رأس المال كانت قوة العمال والمؤسسات الناظمة لهم، تلك القوة التي تتجلى في شكل نضال اقتصادي يتوّج بتفاوض بين طرفي العملية الإنتاجية يؤدي، إن توفرت القوة الكافية للعمال، إلى تعظيم عوائد العمل على حساب رأس المال.

هنا نأتي إلى قضية جوهرية تتعلق بآليات رأسمالية السوق الحر في تحديد نتاج التوازن بين عنصري العمل ورأس المال في مجال توزيع الثروة والدخل. فالثابت أن مصر، وغيرها من البلدان، كانت تعتمد على دور كبير للدولة، كسلطة متحكمة، في تحديد نتاج هذا التوازن في ظل نموذج رأسمالية الدولة الذي كان متبعاً في عصر عبد الناصر وبدايات عصر السادات. آنذاك كانت الآليات التحكمية – المبنية على سلطة وانحيازات الدولة – هي التي تلعب الدور الأكثر أهمية، ولكن ليس الوحيد، في تحديد عوائد كل من العمل ورأس المال. بمعنى آخر: كانت الدولة، من خلال قراراتها التحكمية، تفرض سقفاً على تراكم وأرباح رأس المال الخاص، وتنزح الفوائض من قطاع إلى قطاع، ومن الريف إلى المدينة، ومن رأس المال إلى العمل. أما مع اتباع سياسات السوق الحر، ثم مع تعاظم دور هذه السياسات خلال السنوات العشرين الماضية، فقد أصبح عائد كل من العمل ورأس المال يتحدد ليس بالأساس من خلال آليات تحكمية من جانب الدولة، بل من خلال آليات السوق الحر نفسها، وهي الآليات التي تتضمن إلى جانب التوازن الاقتصادي السوقي، نتائج الصراع بين عنصري العمل ورأس المال في مواقع العمل ومن خلال المؤسسات النقابية والتنظيمات العمالية.

ولما كنا نعلم جميعاً أن التوازن السوقي في ظل رأسمالية المحاسيب الاحتكارية المصرية ينحو بشكل هائل إلى تعظيم عوائد رأس المال على حساب عوائد العمل، ولما كنا نعلم كذلك أن مؤسسات التنظيم العمالي المصري إما متواطئة مع الدولة تماماً وخارجة من عباءة الكوربوراتية الناصرية (الاتحاد العام لعمال مصر)، أو ضعيفة وهشة وغير ممثلة إلا لقطاع عمالي صغير (الاتحادات المستقلة الجديدة)، فإنه من المتوقع أن نتائج آليات السوق و/أو الصراع والتفاوض بين عنصري العمل ورأس المال ستمثل استمراراً وتعظيماً لغبن العاملين بأجر ولتحبيذ مصالح رأس المال وأرباحه على أي مصالح.

وهنا فإنه لمن الأمور ذات الدلالة أن دستور 2013 قد ألغى مادتين شديدتي الأهمية كانتا موجودتين في دستور 2012 ربما كانتا ستعوضان هذا اللاتوازن الفاحش في الواقع، ونعني بهما المادة الخاصة بإنشاء مجلس اقتصادي اجتماعي يضم ممثلي القوى العاملة يكون له صوت في مناقشة القوانين الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة على توزيع الدخل والثروة، والمادة الخاصة بالإبقاء على نسبة الخمسين بالمائة من العمال والفلاحين بالمجالس النيابية لدورة برلمانية إضافية. إلغاء هاتين المادتين اللتين كانتا ستلعبان، ربما، دوراً في تحسين الأوضاع التفاوضية للعاملين بأجر ومجمل الكادحين يعني – وبشكل لا يمكن التغافل عنه – نية مبيتة للتأسيس لغبن أكبر للقوى العاملة في مجالي توزيع الثروة والدخل.

فمغزى هاتين المادتين هو أن الدستور يعترف بأن كلاً من التوازن السوقي والتفاوض الجماعي المباشر بين نقابات العمال وممثلي رأس المال غير كافيين، بل غير مؤهلين، في الحالة المصرية، المتسمة بالضعف البادي في منظمات العمال، لأن يحققا تعديلاً في توزيع الدخل بين الطرفين لمصلحة العمل، وهذا ما استدعى أن يجبر  الدستور هذا الوضع بإنشائه لمؤسسة (هي المجلس الاقتصادي الاجتماعي) تضم بين أعضائها ممثلين للطبقات العاملة والمنتجة تكون مهمتها مراجعة القوانين المتعلقة بالشئون الاقتصادية والاجتماعية ومتابعة أوضاع العدالة الاجتماعية، وبفرضه لحصة (كوتا) للعمال والفلاحين في المجلس التشريعي.

لكن الذي حدث فعلاً، كما قلنا، هو أن مشروع دستور 2013 ألغى هذين النصين، مضعفاً بهذا أدوات تحقيق العدالة من خلال فرض وجود ممثلي الطبقات الكادحة في مؤسسات صنع التشريع والقرار الاقتصادي.

ضرب المتنفذين الاقتصاديين

مشروع دستور 2013 إذن لا يستخدم حتى المتاح في ظل سياسات السوق الحر – ضرائب تصاعدية جادة أو تقوية الشوكة التفاوضية لعنصر العمل – لكبح التدهور المتواصل الحاصل في حصة الطبقات العاملة من الدخل الاجتماعي. لكن ربما الأهم من ذلك هو "خيانة" الدستور لقواعد المنافسة الكاملة التي يتم الطنطنة بها صباح مساء بوصفها أحد مقتضيات رأسمالية السوق الحر. تم هذا ليس بطريقة الإفصاح المباشر الفج، فهذا فضلا عن سماجته وغبائه يستعدي "المواطنين" من حيث ليس هناك داع، بل بطريقة القبول الضمني بالبنيان الاحتكاري الذي يتأسس عليه الاقتصاد المصري.

فعدا كلمات جوفاء متعجلة عن ضمان قواعد التنافسية ومنع الاحتكار، نجد الدستور لا ينبس ببنت شفة عن إجراءات إيجابية لهدم الهيكل الاحتكاري السائد بالفعل في مصر، وهذا طبعاً أمر مفهوم، لأن أية محاولة لضرب الأوضاع المستقرة للرأسمالية الاحتكارية المصرية تعد بمثابة حرب شعواء على أكثر القوى تنفذاً في المجتمع المصري، وهي حرب لم يتخيل واضعو الدستور حتى أنهم بقادرين على دخولها، خاصة أن نسبة لا بأس بها منهم هم أنفسهم من الملاك المتنفذين أو من أصحابهم أو من عبيد عطاياهم.

أكثر النماذج فداحة هنا تتعلق، طبعاً، باقتصاد الجيش. ونحن هنا نتحدث عن اقتصاد الجيش وليس عن ميزانية الجيش التي ستظهر رقماً واحداً في موازنة الدولة. فميزانية الجيش هي ما تقدمه المالية العامة لتلك المؤسسة من مؤسسات الدولة من أموال للصرف على بعض أوجه نشاطها. أما اقتصاد الجيش فهو شأن أوسع بكثير، وهو يخص الجيش ليس كمؤسسة خدمية تتلقى الأموال من الدولة لتقدم للمواطنين خدمة الأمن والدفاع، بل كمؤسسة اقتصادية تمتلك هي نفسها مصانع ومزارع وأراض وعقارات وشركات توزيع وخدمات بلا حصر أو عدد. 

مؤسسة الجيش الاقتصادية جزء من الاقتصاد المصري المدني في كل مجالاته ومناحيه، بل هي الجزء الأكبر حجماً والأكثر تميزاً بحكم وضعها المتنفذ في الدولة الذي يتيح لها الحصول على مدخلات إنتاجية بأسعار غير سوقية لا يمكن منافستها، وهو ما يعني بالتبعية أن أرباح مؤسسة الجيش الاقتصادية غير عادية، أو ما يطلق عليه super profits.

ليس هناك من شك أن أي دارس للاقتصاد، حتى من المنظور النيوليبرالي، سيعتبر أن هذه المؤسسة الاقتصادية تقف عقبة في طريق الشفافية والتنافسية في الاقتصاد المصري، بل هي العقبة الأكبر، ليس فقط لأنها، بطبيعتها، تعادي منطق التنافسية، بل لأن منطق عملها يغذي بلا انقطاع منظومة رأسمالية المحاسيب، الاحتكارية هي الأخرى، حيث يتحول اقتصاد الجيش، بتقاطعاته مع الدولة، إلى باب لرفع دائرة من الرأسماليين الأفراد إلى مصاف الاحتكاريين الكبار، فقط لأنهم ذيول لإمبراطورية الجيش يحصلون على مقاولات الباطن منها أو يشاركونها في تجارة الأراضي والعقارات وما شابه.

هذا القسم المهول من الثروة المصرية المحتجز في أيد غير تنافسية وغير شفافة يغذي ليس فقط رأسمالية المحاسيب، بل تدهور العدالة الاجتماعية أيضاً. الأرباح فوق العادية، في مقابل الأجور تحت العادية للعاملين في اقتصاد الجيش، لا يعنيان شيئا غير انعدام فج للعدالة، انعدام يتجاوز حتى منطق الرأسمالية النيوليبرالية التقليدية. لكن مشروع دستور 2013 لا ينبس ببنت شفة عن الموضوع، بل على العكس هو يحصن الجيش أكثر فأكثر حتى يصبح اقتصاده منيعاً على التدخل أو التفكيك لمصلحة "المواطنين".

وفي موازاة ذلك فإن مشروع 2013 لا يتحدى أياً من أسس تشكل واستمرارية الاحتكارات الرأسمالية التي تبلورت على مدى سنوات حكم مبارك. فلا ينصُّ مثلاً على ضرائب على المعاملات الرأسمالية أو على صفقات البورصة، ولا على قواعد محددة لتفكيك الاحتكارات، ولا على منظومة عدالة انتقالية في مجال الجرائم الاقتصادية التي ارتكبها موظفو دولة ورجال أعمال مرتبطون بدوائر النفوذ المباركية.

هذه وغيرها من الأمور غض الدستور الطرف عنها عامداً، ليس حتى لأنه محترم لقدس الأقداس المسمى بالسوق الحر، فليس في تفكيك إمبراطورية الجيش الاقتصادية أو حماية المنافسة وضرب الاحتكار أي تدنيس لهذا القدس، بل لأن مراكز القوى المتنفذة في هذا البلد لم تكن لتسمح بالمساس بأعز ما تملك: الثروة المكتسبة عبر النفاذ إلى شبكات الفساد والسلطة.

مسخ 2013 الدستوري

يمكننا أن نتحدث كثيراً عن البنيان النيوليبرالي لمشروع دستور 2013، يمكننا مثلاً أن نتحدث عن منح الرأسمالية الخاصة لحق التزام المرافق العامة أو عن النص على حماية الملكية الفكرية بكل صورها أو غيرها من الأمور، لكننا سنكتفي بهذا القدر، لنولي اهتمامنا في هذا القسم الأخير للطبيعة الهجينة للدستور.

فالحقيقة أن مشروع دستور 2013 يمزج بين نقيضين لا يمكن التوفيق بينهما على الأجل المتوسط، بالذات في ظل ضعف الاقتصاد المصري. فهو من ناحية يؤسس – أكثر من أي دستور سبقه – لاقتصاديات السوق الحر بوصفها أصل وأساس النظام الاقتصادي المصري، سواء من خلال تقنينه، كما قلنا، لحق القطاع الخاص في الحصول على التزامات المرافق العامة، أو من خلال نصه الصريح على اعتبار توازن الميزانية (أي السياسة الانكماشية) هدفاً من أهداف الاقتصاد، أو من خلال إقراره بحق الملكية الفكرية بدون أية موازنة لذلك بالنص على حق المجتمع في التمتع بإبداعات ومخترعات المبدعين والمخترعين، أو غيرها من الأمور، لكنه هو من ناحية ثانية يتضمن حقوقاً تنتمي بشكل ما، وبدرجة محدودة، إلى نموذج دولة الرفاهة التي ترفع من الإنفاق على مجالات كالصحة والتعليم. 

السر وراء جمع هذين النقيضين بين دفتي نص واحد هو تحالف 30 يونيو ذاته. فقد اضطرت الظروف قوى الدولة القديمة إلى إشراك طرف ينتمي، بمعنى ما، إلى اليسار المجتمعي في السلطة الناجمة عن مظاهرات 30 يونيو وانقلاب 3 يوليو. وقد نتج عن هذا مشاركة رموز لهذا اليسار في لجنة الخمسين التي أنيطت بها مهمة تعديل تعديل لجنة العشرة على دستور 2012. ونظراً لأن اليسار المجتمعي هذا يتبنى، ضمناً، اقتصاد السوق الحر، لكن مع إضافة توابل اجتماعية معينة، فقد كانت النتيجة هي إخراج دستور يحمي قلعة النيوليبرالية من ناحية الدفاع عن تحرير الأسواق وتشجيع رأس المال الخاص وتقليص الدور الإنتاجي التحكمي للدولة، لكنه يحاول تحسين آثارها من ناحية تعظيم إنفاق الدولة على الخدمات العامة.

لكن، الحق يقال، إن هذا الجمع بين نقيضين سوف ينجب مسخاً في الواقع. فكما أن الحدأة لا تلقي بالكتاكيت، فإن رأسمالية الأسواق الحرة وتشجيع رأس المال الخاص لا يمكنها (خاصة في عصر الأزمة الرأسمالية الحالية) تمكين الدولة المنسحبة من تمويل مجتمع رفاهة لا وجود له إلا في أذهان الحالمين بنسخ "التجربة الدنماركية" في الواقع المصري. إن لم تتم مراجعة رأسمالية السوق الحر، إن لم يتم تحديها، فإن المستقبل سيكون إمعاناً في إنعدام العدالة وفشل التنمية.

  • ALSO BY THIS AUTHOR

    • رؤية نقدية لتعديلات لجنة العشرة على دستور 2012

      رؤية نقدية لتعديلات لجنة العشرة على دستور 2012
       نقاش حول الدستور هو مجموعة من المقالات والتعليقات يكتبها بالأساس باحثون من المبادرة المصرية، ومن اصدقائها، ويشتبكون مع عملية تعديل الدستور، والمرحلة الانتقالية بشكل عام، من منطلقات مختلفة سياسي
    • !بحثّاً عن حلف تاريخي جديد

      !بحثّاً عن حلف تاريخي جديد
      ما هو الخطر الأكبر على الثورة؟ يخطئ من يظن أنه السلطة، أو حتى الثورة المضادة أيًا ما كانت درجة شراستها. الخطر الأكبر على الثورة هو قيادة غير ثورية تلجم، تنحرف يمينًا، وتخون. أناقش في هذا المقال

تنظيم المخلّ بالنظام؟ الباعة المتجولون والدولة التنمويّة

 عندما أصدر الرئيس مرسي في العشرين من تشرين الثاني (من العام الماضي) مرسومه المثير للجدل والذي يقع خارج صلاحياته الدستورية، والذي قام لاحقاً بإلغائه جزئياً جرّاء ضغط شعبي هائل، وعد باستعمال صلاحياته التشريعية الإستثنائية الممنوحة له فقط في حدود مقلصة للغاية. وعندما قام فعلياً بممارسة هذه الصلاحيات، قام بذلك سريعاً من أجل سنّ قانون رقم 105/2012 وذلك في خضم ما بات يوصف –دون مغالاة- باللحظات الأكثر حسماً في تاريخ مصر الحديث. حتى المحلل السياسي الأكثر تمرّساً يمكن أن يغفر له إذا ما افترض من باب السذاجة أن هذا القانون يتعلق بالاستفتاء الوشيك على مسودّة الدستور التي أدت الى استقطاب حاد البلاد، أو أنه يتعلق بدور الجيش في الاقتصاد. إلا أن ما يثير الاهتمام هو أن قانون 105/2012 كان قد صُمم من أجل زيادة الإجراءات العقابية ضد الباعة المتجولين، فقد رُفعت العقوبة على الإخلال المنصوص في القانون رقم 33/1957، والتي كانت، حتى ذلك الوقت، تنظم عمل ما يقدر بخمسة ملايين بائع متجول في مصر؛ من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر سجن والى خمسة آلاف جنيه غرامة بدلاً من ألف جنيه. لكن، هل كانت هذه على ما يبدو واحدة من إخفاقات مرسي اللانهائية في الأسابيع الأخيرة التي تعكس عدم تواصله بتاتاً مع الحقائق السياسية؟ أم أن هناك المزيد مما يمكن قراءته في مثل هذا القرار من حيث طبيعة علاقات الدولة والمجتمع، الاقتصاد والحيز العام في المرحلة الثورية الحالية؟

إن ثورة 25 يناير، والثمانية عشر يوماً الصاخبة في ميدان التحرير والمسيرات والاحتجاجات العملاقة والاعتصامات التي تلتها والتي اجتاحت البلاد منذ ذلك الوقت، قد أدت الى أكثر من مجرد إسقاط حسني مبارك. فهي تطرح تحديات لهؤلاء الذين خلفوه. الثقافة السياسية الجديدة التي نشأت في صحوة هذه الثورة، كانت قد أبرزت في المقام الأول، الحسّ الفردي والجماعي للمطالبة بالحرية. وعليه فقد قامت بتغيير ممارسات وإدراكات حول الحيز العام. فقد قام النظام التقليدي للحفاظ على الأمن في الحيز المديني المصري، معززاً بكل من قانون الطوارئ المشهور وحضور بوليسي مكثف في الشارع والجدران العالية المنتشرة حول المجمعات السكنية المسوّرة ومراكز التسوق، بإرهاب المواطنين لوقت طويل وحدّ من قدرتهم على استملاك الحيز العام. سواء كانوا نشطاء يدفعون للتعبئة ضد النظام أو كانوا عشاقاّ يبحثون عن لحظات حميمية سريعة، أو فقراء يأملون بلحظات من الراحة من شقائهم اليومي الطاحنّ؛ فقد مُنع المصريون جسدياً من الوصول إلى الحيز العام. الإحساس بالقوة الكامنة الذي تم الحصول عليه أثناء الخروج الى الشوارع على مدى العاميّن الماضيين لم يتمكن من إلغاء حكم السيطرة بالكامل ولكنه بالتأكيد أدى الى ما بات يسميه الكثيرون "إعادة الاستيلاء" على الحيز العام. لا يمكن بعد اليوم تقييدالملايين التي اختبرت الحرية عبر الخروج الى الشوارع للتظاهر، للتناقش وتبادل الأفكار مع رفاقهم من المواطنين الذين لم تتح لهم فرصة التلاقي علناً من قبل، من قبل النظام القمعي ذاته، على الأقل ليس بشكل تام.

إلا أن إكتشاف فرص وموارد جديدة عادة ما يؤدي إلى معارك على الملكية والاستحقاق. لذلك فالمقدرة على إستعادة الحيز العام سرعان ما خلقت نقاشات حادة حول أحقية الوصول لهذا الحيز، من يتوجب إقصاؤه وما هي قواعد التواصل التي يجب اعتمادها بين المواطنين من ذات الدولة. الفئات السياسية المتحاربة قدمت مثالاً لهذه المعركة الجديدة في حملاتها للمطالبة بنسب مواقع تجمّع معينة لها، وعلى رأسها ميدان التحرير الذي بات موقعاً أيقونياً. وكان رسم كاريكاتوري تم تناقله بشكل واسع على الفايسبوك بعد الصدامات بين القوى المعارضة والمؤيدة لمرسوم مرسي الرئاسي حول استعمال ميدان التحرير كبؤرة الزلزال لحملاتهم الشعبية لتعبئة الجماهير، قد عكس هذا النزاع بشكل كبير. ويقترح الرسم الكاريكاتوري مجموعة من القواعد "لجدول ميدان التحرير"، حيث يتم حجز أيام السبت والإثنين والأربعاء لمؤيدي السلفيين والأخوان المسلمين، بينما تُحجز أيام الأحد والثلاثاء والخميس للثوار. وأخيراً فإن يوم الجمعة قد تم تحديده للصيانة والتنظيف وتبادل أسرى "الحرب". إلا أنه، ومنذ 25 يناير 2011، تعدّت المعارك حول ملكية واستحقاق الحيز العام إلى ما هو أكبر من الصراعات الدائرة بين القوى السياسية المتحاربة. الإمكانيات الجديدة لاستحقاق الحيز العام أحيت مخاوف مجتمعية متأصلة وخطوط تماس بين مجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة. واحدة من الأمثلة الأكثر صلة بهذا التماس كان السؤال حول حضور المرأة في الحيز العام والمضايقات المتكررة التي عانت منها خلال وما بعد الثورة. الحالات الأخرى التي أثارت قلقاً متواصلاً تتعلق بمكان مجموعات مهمشة أخرى مثل "أولاد الشوارع" والباعة المتجولين.

\"\"

[الصورة من صفحة "منتديات الشاب كول" على الفيسبوك]

 

منذ الأيام الأولى للثورة، توافد الباعة المتجولون إلى ميدان التحرير حيث خلقوا إقتصاداً محلياً مزدهراً زود ملايين المحتجّين الذين ارتادوا ميدان التحرير لاحقاً بوجبات خفيفة ومشروبات بأسعار معقولة. سواء كانوا عائلات أو مجموعات من الأصدقاء الذين جاؤوا للانضمام للاحتجاج أو للتمتع بالإحساس بالحرية والتفاؤل الناضح من الميدان أو كانوا من المقاتلين المستميتين الذين جعلوا من ميدان التحرير بيتاً لهم، فإن كل هؤلاء اعتمدوا على الباعة المتجولين بدلاً من القهاوي والمطاعم المكلفة في وسط البلد في القاهرة. مع الوقت، إنضم اليهم المزيد من الباعة الذين يبيعون مختلف البضائع وسرعان ما تناثروا جميعهم على أرصفة وشوارع كامل منطقة وسط البلد.

فور سقوط مبارك، شرع الجيش والحكومات المتعاقبة في حملة لإخلاء ميدان التحرير، ليس فقط من المحتجين وإنما أيضاً من الباعة. كان الهدف من هذه المحاولات حفظ النظام العام في الشوارع والأهم من ذلك استعادة صورة الدولة القوية "ووقار" المجتمع المصري، الذي يعتبره هذا المنطق مهدداً نتيجة إحتلال الحيز العام. ونادرة هي الحالات التي لا تؤدي بها الإزالة القسرية إلى تصادم عنيف، يعتبر فيه الباعة و"البلطجية" (غالباً ما تم خلط/استعمال الاثنين بالتبادل) بكونهم الملامين على العنف. جهود سلطات الدولة لإخلاء الباعة من التحرير والشوارع المحيطة شكّلت جزءاً واحداً فقط من حملة شاملة طويلة الأمد تمتد لكافة أطراف البلاد لقمع الظاهرة، والتي يعزو إليها الناس مواطن الشر بما في ذلك الفوضى في الشوارع وأزمة المرور والإخلال بالقانون وعلاوة على كل هذا "تشويه" المظهر الحضاري المصري. يدعم أصحاب المحال التجارية والطبقة الوسطى من سكان المدينة مثل هذه الجهود. فبالنسبة لأصحاب المحال التجارية، من الواضح أن الباعة يشكلون مصدر تهديد لهم لأنهم يبيعون بضاعة بأسعار معقولةعند عتبات محالهم. بينما يرى سكان الحارات التي تقطنها الطبقة الوسطى في المدينة الباعة المتجولين كتهديد لأنهم يعيقون انسياب حركة السير ويسّدون الأرصفة مما يجعل تنقل المارة بسهولة أمراً مستحيلاً. وهناك أيضاً بُعد آخر "أخلاقي" متعلق بشعورهم بالقلق الذي يثيره الفقر وعدم النظام المتجسد بالباعة المتجولين. ومن نافل القول، أنه لا يمكنه عزو السبب الحقيقي للزحمة المرورية الخانقة في القاهرة وفوضى الشوارع وإلقاء اللوم في ذلك على الباعة المتجولين. وإنما نجد تلك الأسباب في غياب نظام ناجع ومعقول للمواصلات العامة، وفي شبكات الشوارع الرديئة، وفي أخطاء كبيرة في التخطيط المديني ونظام رأسمالية المحاسيب. على أية حال، فسكان المناطق المرفهة في مصر عازمون على القضاء على حضور الباعة المتجولين "غير الحضاري" والمهدد أخلاقياً، موظفين لذلك كل التبريرات. عليه، فهم يدعون الشرطة بشكل متكرر حيث يرونها حليفهم الطبيعي في حماسهم ضد الإخلال بالقانون وانعدام النظام، وذلك لقمع الباعة المتجولين ومنعهم من العمل في أحيائهم.

جاء قانون مرسي المذهل كخطوة يائسة في معركة طويلة الأمد للتخلص من الباعة المتجولين. فعلى سبيل المثال، في مارس/آذار 2011 قامت قوات من الجيش والحرس المدني بإخلاء باعة متجولين بالقوة من ميدان رمسيس وإعتقال الكثيرين منهم، فيما قُدِم بعض منهم للمحاكمة لاحقاً حيث حوكموا في المحاكم العسكرية. مؤخراً، وتحديداً في أوكتوبر/تشرين الأول 2012، لقي بائع فاكهة شاب يبلغ من العمر 22 عاماً حتفه في صدامات عنيفة خلال هجوم شنته قوات تابعة للشرطة في محاولة منها لتطهير دوار الجيزة من كل الباعة. الأمر الذي أدى الى احتجاج نظمه زملاؤه الباعة أمام مكتب المدعي العام مطالبين بالاقتصاص من المسؤول.

هذه المعركة المستمرة ليست بالجديدة أو الفريدة والخاصة بمصر وحدها. ولكنها شكلت جزءاً متكاملاً من بناء وعمل الدولة التنموية منذ الخمسينيات والستينيات في أغلب الدول النامية. روجت الدولة التنموية عند الأمم المستقلة حديثاً، والنظام الإقتصادي الذي دعمها في النصف الثاني من القرن العشرين لمشروع تحديث يعتمد على العقلانية والنجاعة والتكنولوجيا ووسائل الإدارة الغربية، بالإضافة إلى النظام. بناء على هذا، فقد اعتبروا الإقتصاد غير الرسمي والباعة المتجولين في صلبها كنقيض لمشروع الدولة ووجودها. الباعة المتجولون جسدوا كل ما هو مخالف للحداثة: عدم النجاعة، الفوضى، والطفيلية وعدم الانضباط. صورة المدن غربية الطراز الحداثية وحسنة التخطيط كانت مهددة بفعل ربطها بالفقر والإخلال بالقانون والفوضى التي يخلقها باعة تقليديو الملبس والعمل. الباعة تجولوا في الشوارع، ولم يكن لهم أماكن تجارة ثابتة ولم يتبعوا أي قانون، كما يقضي بذلك المجتمع المتحضر والحداثي.

وضع زاغموند باومن إصبعه على جوهر الحداثة بوصفه إياها بـ "النظام كهوس". لقد عمل النظام، قبل أي شيء، كمحرك جوهري في إعادة إنتاج نظام إقتصادي سائد. في نظام رأسمالي حداثي، فيما تعمل الشركات الكبرى وفقاً لأسس سلم الإقتصاد، فإن الشركة وحتى رجال الأعمال الصغار ولكن المنظمين- يُعترف بهم كشركاء وعملاء للحداثة لكونهم يتلائمون ضمن نموذج عماده تمركز الانتاج والتوزيع. أما الباعة المتجولون، فهم لا يدفعون الضرائب ولا يحفظون السّجلات كما ويستحيل إدراجهم في المؤشرات الاقتصادية العامة مثل مؤشر الناتج المحلي الإجمالي؛ عليه فهم مضّرون للتخطيط القومي الإقتصادي. والأكثر أهمية من ذلك، فإن الشركات والمؤسسات التجارية الكبرى تكرس الدوّر التنظيمي للدولة لإدارة علاقات الإنتاج، حيث تزود الدولة بكونها"رأسمالي جماعي مثالي" الشروط السياسية المسبقة لعملية تراكم صحية عبر السيطرة على علاقات رأس المال لصالح منافع رأسمالية.

على أية حال وبالرغم من جهود الدول المستقلة حديثاً لدمج الإقتصاد غير الرسمي في منظومة مرتبة والقضاء على البيع في الشوارع، إلا أن كلاهما، أي الإقتصاد غير الرسمي والباعة- قد تابعا الإزدهار بمعزل عن الدولة في البلدان النامية. إن الفشل في التنظيم المركزي، والقطاع الخاص غير المتطور وحقائق إقتصادية أخرى في هذه الدول عنت أن القطاعات الأكثر تقليدية مجبرة على تقديم الحلول والرد على احتياجات الملايين المقصيين من مشاريع الحداثة؛ الاحتياجيات التي فشلت الدولة التنموية ذاتها بتلبيتها. هذا صحيح الآن في القرن الواحد والعشرين كما كان صحيحاً في العقود الأولى للاستقلال. لكن القطاع غير الرسمي يستمر بتوفير الوظائف لهؤلاء الذين يدخلون سوق العمل في كل عام والذين تنعدم أمامهم فرص العثور على عمل في القطاع الرسمي.

تغير معنى التنمية إلى حد كبير على مر العقود، وتغيرت ومعه أيضاً تعريفاتها وتوجهاتها التي تم توظيفها من قبل الحكومات الوطنية. التحولات في معنى التنمية كانت قد واكبت دائماً الإحتياجات المتزايدة للنظام الإقتصادي العالمي. بناء على ذلك، فإن الكثير من الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي اضطرت الى تغيير افتراضاتها المبكرة عن التطور والسياسات المتبعة لتحقيق التمنية، وذلك بناء على تطور الإقتصاد العالمي. إلا أن التناقض الآن يكمن في أن الاحتياجات الأخيرة للنظام الرأسمالي العالمي أدت الى مأسسة عمليات من اللارسمية. فالتغييرات في هيئة منظومات التصنيع وفي قطاعات أخرى قد ولّدت منطقاً إنتاجياً جديداً. على سبيل المثال، يعتمد "خط الإنتاج العالمي"، على الإستعانة بشبكات من المصادر الخارجية، بالإضافة الى التعاقد الهرمي ومرونة سوق العمل. هذا النظام على أي حال، ينتج بشكل ثابت المزيد من الإستغلال في العمل، رواتب متدنية، شروط عمل غير آمنة والمزيد من عدم التوازن الوظيفي.

إن النقد المترتب عن هذا التطور وتأثيره على حياة الملايين من الفقراء على المستوى العالمي، حدا بالمؤسسات المالية الكبرى لابتكار سياسات تعزز فعلياً المزيد من أشكال "اللارسمية" من أجل تحسين نصيب هؤلاء العاملين ضمنها وذلك بمساعدة تدخل الدولة. السياسات النيوليبرالية المعززة من قبل "إجماع واشنطن" والمؤيدة بكل طاعة من قبل الجنوب العالمي، بما في ذلك مصر، تقوم، الآن –للمفارقة- بتعزيز مبادرات متواضعة عبر قروض صغيرة وغيرها من برامج التدريب والإقتراض باعتبارها حجر الزاوية المساند للاقتصاد. نتيجة لذلك فإن السياسات المنبثقة عن المؤسسات الإقتصادية إتجاه الإقتصاد غير الرسمي، تهدف إلى "تنظيم" القطاع ولكن ذلك بهدف تعزيزه وليس القضاء عليه.

في سياق مصر طالما اكتسب "التنظيم" دائماً معنى مختلفاً وذلك حسب من يتحدث عنه. ففي الوقت الذي يعتبر تشكيل نقابة للعمال بمثابة سلاح عظيم ضد الاستغلال، إلا أن الطريقة التي يفهم بها المسؤولون المصريون "التنظيم" تختلف بشكل كبير عن تلك التي يفهمها العمال. فبالنسبة لدولة مثل مصر، فإن تنظيم العمل لم يتعلق أبداً بلجم قوة التفاوض الجماعية للعمال، وإنما بتنظيمهم في هيئات قابلة للضبط. في حالة الباعة المتجولين، عنى ذلك تنظيم ظاهرة فوضوية ولكن أيضاً حتمية. وفقاً لهذا المنظور يتم التسامح مع الباعة المتجولين طالما يحتلون مكاناً محدداً، وعليه فيمكن موضعته، إقصاؤه والسيطرة عليه. مؤخراً، قامت كل من نقابة المهن التجارية سوية مع وزارة المالية والإتحاد العام لنقابات عمال مصر المعروف بفساده، بمسح لكافة الباعة المتجولين على صعيد وطني في محاولة منها لتنظيمهم. في الأسابيع الأخيرة، طالب إتحاد الغرف التجارية المصرية الحكومة بتخصيص سوق أسبوعية محددة في مناطق معينة وذلك من أجل "دمجهم في كيان الدولة الرسمي".

حاولت الحكومات المتعاقبة، بما في ذلك تلك التي كانت في فترة حكم مبارك، إبعاد الباعة المتجولين عن مركز القاهرة إلى مدن تابعة لها تقع على أطرافها مثل عبور، وستة أوكتوبر، والشيخ زايد وسلام. مع شبكة المواصلات العامة الضعيفة التي تربط هذه التجمعات السكانية الهانشية (مثال هائل على فشل التخطيط المديني)، فإن النقل يشكل حكم إعدام يحاول كل الباعة تجنبه.

من جهة أخرى، فإن الباعة المتجولين تواقون لتشكيل نقابة عمالية، وعلى الأقل تنظيم صفوفهم جماعياً ضد مضايقات الدولة، وفساد الشرطة والحماية من الاحتيال. وكان أحد باعة القاهرة المتجولين قد أخذ على عاتقه مبادرة للضغط لتشكيل إتحاد عمال مستقل، وتمكن من جمع أربعة آلاف توقيع من باعة من مختلف المحافظات. إلا أن إقامة إتحاد مستقل واجهت الكثير من التعقيدات من قبل وزارة العمل، ويأتي هذا كجزء من استراتيجية حكومات ما بعد مبارك لتوقيف تطور المئات من الاتحادات المستقلة، والتي ازدهرت في فترة ما بعد سقوط مبارك. أسوة بغالبية الحكومات الوطنية في الجنوب العالمي، المسؤولون المصريون اضطروا للعمل وفقاً لإملاءات المؤسسات المالية العالمية والتي صممت سياستها بشكل يدعم مصالح نظام رأسمالي عالمي. ومع ذلك، فإن بيروقراطيات هذه الدول هي أقل مرونة من الرأسمال العالمي فمسؤولو الدولة يلاقون صعوبة في تعلم خدع جديدة والتخلي عن العادات القديمة. لذلك ما تزال الدولة المصرية ملتزمة باللقضاء على الباعة المتجولين الذين يمثلون تهديداً لحفظها للنظام، ذلك في الوقت الذي تصرح سياساتها الرسمية بدمجهم كشركاء في التطور. ومن نافل القول، أن أياً من توجهات الدولة بالنسبة للتعامل مع "مشكلة" الباعة المتجولين لن تكون ناجعة، ففي تجريم قطاع ما غاية في الأهمية لسوق العمل وللسياسيات الاقتصادية الحكومية الرسمية، بدون طرح بدائل، لن تكون هناك نجاعة ولا حكمة. وفي النفس الدرجة، فإن إحتواء وتنظيم الباعة المتجولين عبر ابعادهم عن قلب المدن وإعادة موضعتهم في الهوامش المدينية بأمل تحويلهم إلى غير مرئيين، يعمل بعكس الأسباب التي تقف وراء نجاح القطاع غير الرسمي، وتلك مرونته، لارسميته وقدرته الجسدية على التنقل. حاولت الدولة التحديثية التي تعتمد التنموية منهجاً، في مصر وفي أماكن أخرى، حاولت جاهدة ملائمة الواقع الإجتماعي في إطار متخيًّل؛ إطار أتقصى مواطنيه وهمشهم بشكل ممنهج. لم ينجح هذا في الماضي، ولن ينجح الآن أيضاً.

[نشر المقال على "جدلية" باللغة الإنكليزية وترجمته حنين نعامنة إلى العربية]