النظر بشكل مدقق في مشروع دستور 2013 يُعلِّمنا الكثير بشأن الانحيازات الاجتماعية/ الطبقية المُتضمَّنة، والمسكوت عنها، في هذا المشروع. في هذا المقام نحاول أن نستكشف موقف المشروع المطروح للاستفتاء إزاء الطبقة الرأسمالية ونظام السوق الحر الذي يجسّد في المرحلة التاريخية الراهنة الإطار التنظيمي الحاكم لنشاط تلك الطبقة.
الدستور والمواطن والجماعة
كمبدأ عام، تتوجه الدساتير بتكليفاتها والتزاماتها إما إلى "الدولة" أو إلى "المواطنين الأفراد". يمكننا تتبع جذر هذا المنهج في نظرية الحق البرجوازية الحديثة التي تفترض بزوغ المجتمع المدني – بالمعنى الهيجلي الكلاسيكي للكلمة – بوصفه مجال المصالح الخاصة الذي يدور فيه صراع بين "مواطنين" متساوي الأهلية يحظون جميعاً بالشخصية القانونية الاعتبارية. هنا يكون دور الدستور، بوصفه قانون القوانين، هو تنظيم العلاقة بين الذوات الفردية المتصارعة والمتنافسة للمواطنين ذوي الشخصيات الاعتبارية الخاصة، وبينهم جميعاً وبين الدولة الحديثة بوصفها تُمثِّل تجسيداً للصالح العام، أو باعتبارها الشخصية الاعتبارية العامة التي تحل، في وجودها المادي، تناقضات المجتمع المدني من حيث أدائها لمهمة التوحيد الوظيفي والحقوقي لما يستحيل توحيده بدونها بعد أن انحلّت، أو كادت، الروابط العضوية السابقة على المجتمع الحديث.
على أن الدساتير الحديثة، ما يُطلق عليه "الأجيال الثانية والثالثة للدساتير"، تنحو كذلك إلى الحديث أكثر فأكثر عن فئات أو جماعات من المواطنين، ليس على اعتبار أن هذا بالضرورة نقض لفكرة تأسيس القانون الحديث على التجريد المسمى بـ"المواطن الفرد"، ولكن على اعتبار أن التحقق الأمثل للمواطنة – أي للتجريد الفردي للشخصية القانونية الاعتبارية – يتطلب من ضمن ما يتطلب تأسيس حقوق خاصة لفئات اجتماعية لا يمكن ضمان مساواتها مادياً وعملياً بباقي المواطنين دون ضمانات قانونية تخصها.
وقد سار مشروع دستور 2013 على هذا المنوال بحديثه المفصّل عن فئات كثيرة من المواطنين الذين يتطلب التحقق الكامل لمواطنتهم التأسيس لحقوق خاصة لهم. فالمشروع الذي بين أيدينا تحدث في مواده المختلفة عن "العمال"، و"العمال الزراعيين"، و"الموظفين"، و"الفلاحين"، و"صغار الفلاحين"، و"صغار الحرفيين"، و"العمالة غير المنتظمة"، و"الصيادين" كقوى اجتماعية لها من الحقوق ما يستوجب تجاوز الحديث العمومي عن حقوق المواطنين في تجريده العام. وهو كذلك تحدث عن "الأطباء"، و"هيئات التمريض"، و"المعلمين"، و"الباحثين"، و"المخترعين"، و"المبدعين" كفئات وظيفية وكأدوار في التقسيم الاجتماعي للعمل لها من الحقوق وعلى الدولة تجاهم من الالتزامات ما يستوجب حديثاً منفرداً. وهو كذلك تحدث عن "النساء"، و"الأمهات"، و"النساء المعيلات"، و"الأطفال"، و"ذوي الإعاقة"، و"الأٌقزام"، و"الشباب"، و"النشء"، و"المسنين"، و"المسيحيين"، و"اليهود"، و"أصحاب الديانات السماوية"، و"أهل المناطق الحدودية والمحرومة"، و"أهل البادية والريف"، و"سكان النوبة" بوصفهم فئات جنسية/ عمرية/ جغرافية/ إثنية/ ثقافية مضطهدة أو مميز ضدها أو لها خصوصية تستحق دسترة حقوقها أو تحديد التزاماتها، سواء لتقييد مواطنتها الكاملة كما هو الحال بالنسبة للمسيحيين أو اليهود، أو لتقنين نوع من التمييز الإيجابي لصالحها كوسيلة للتأسيس لمواطنتها الكاملة التي تنتقص منها عمليات التجاذب الجارية في المجتمع المدني وفرزه الداخلي لقواه المختلفة.
غياب أقوى من الحضور
هل تلاحظون نقصاً ما؟ هل هناك شيء ما غائب أو مسكوت عنه؟ نعم، بالضبط، إنهم الرأسماليون أو المستثمرون أو رجال الأعمال، على حسب ما تحب أن تسميهم. فلقد صمت الدستور تماماً بخصوص هذه الفئة/الطبقة. لا شيء، في حدود قراءاتي المتعددة للنص، يخص هؤلاء، حقوقهم، واجباتهم، التزاماتهم، أو الإطار القانوني الذي يحكم نشاطهم. لا شيء، لا شيء البتة.
هذا أمر يثير الدهشة، ثم التأمل، خاصة وأنه يتعلق بدستور دولة كانت السمة الأكثر أهمية لتاريخها القريب هي الصعود المهيب، أو البائس، لحيتان رجال المال والأعمال واستئثارهم المتزايد بالمساحات الأوسع والأكثر نفوذاً في الفضاء الاقتصادي، وكذلك الاجتماعي والسياسي. فلماذا لا يظهر هؤلاء في نصوص دستورنا بصفتهم قوة اجتماعية تستحق تنظيم نشاطها في إطار دولة القانون والمواطنة، مثلها في ذلك مثل أبناء الطبقات الكادحة كالعمال والفلاحين والصيادين والحرفيين، أو أبناء الطبقة الوسطى من أطباء ومعلمين وغيرهم، أو بيروقراطية الدولة ورجال أجهزتها الأمنية من الموظفين إلى القضاة إلى رجال الشرطة والجيش؟ بل لماذا لا يظهر حتى مجال نشاطهم – أعني القطاع الخاص – إلا في عبارة أو عبارتين عابرتين داخل الدستور وبشكل لا يشرح شيئاً أو يضبط حقاً؟
لا أظن أن أحداً سيعتقد، ولو لوهلة، أن غياب الرأسماليين أو رجال الأعمال عن الدستور يمثل إهداراً لحقوقهم أو انتقاصاً منها! فالحق أن هذا الغياب، على العكس، أقوى من الحضور، بل هو الغياب الذي يمثل حضوراً أقوى من كل وأي حضور. فالافتراض الضمني الذي يعكسه هذا الغياب هو ترك تغوّل هذه الطبقة في الواقع المادي الملموس على حاله دون أي تنظيم أو تأطير أو حدود.
ولفهم ما نقول نذكّر أن الدساتير، والقوانين عامة، تمثل نتاج تفاوض بين قوى اجتماعية/ سياسية في لحظة تاريخية ما على إحداث تغيير ما في موازين القوى السابقة لتلك اللحظة التي تم تضمينها في دساتير أو قوانين يتم تعديلها بما هو جديد من نصوص قيد التفاوض. فلما يهمل الدستور، جزئياً أو كلياً، تحديد أوضاع قوة ما وعلاقاتها بباقي القوى، فهو بذلك يترك هذا التحديد لمسار الواقع وصراعاته. فلو كانت هذه القوة متغّولة وذات هيمنة، فإن الإهمال يعني تحبيذ الإمعان في هيمنتها، ولو كانت مُتَغَوَّلاً عليها والهيمنة واقعة عليها، فإن الإهمال يعني تحبيذ استمرار الهيمنة الواقعة عليها.
ولما كنا نتحدث عن قوة اجتماعية – نعني رأس المال – ميزت نفسها، وميزتها الدولة، على مدى عقود وعقود بالهيمنة، الكاملة تقريباً، على القرار الاقتصادي، وببعض الهيمنة على القرار السياسي، فإن الإهمال المفضوح في دستور 2013، وسابقه، لتنظيم وتحجيم أدوارها، هو بالقطع تحبيذ لاستمرار هيمنتها، بل وامتدادها إلى مجالات ومستويات أخرى.
من يدفع ثمن الرفاهة؟
قد يرى البعض أن طريقة مشروع الدستور الحالي في تحجيم هيمنة رأس المال هي تعظيم حقوق القوى المضادة له في الصراع الاقتصادي والاجتماعي. بتعبير آخر: قد يرى البعض أن تحديد وتعظيم حقوق العمال والفلاحين، وحقوق المستهلكين، وحقوق المواطنين بشكل عام، هو طريق هذا المشروع لكبح تغوّل رأس المال. فمثلاً قد يكون نص مشروع الدستور على ضرورة تحديد حد أدنى للأجور لكل العاملين بأجر، وضرورة تحديد حد أقصى للأجر للعاملين في الدولة والقطاع العام، ونصه على تعظيم الإنفاق العام في مجالات كالصحة والتعليم والتعليم العالي والبحث العلمي، ونصه على شمول التأمين الصحي لكافة المواطنين وعلى مجانية التعليم الأساسي وعلى إلزام الدولة بتوفير خدمات التأمين الاجتماعي وعلى سعيها إلى شموله الفلاحين والصيادين وغيرهم من الفئات المستضعفة، ونصه على تصاعدية الضرائب حسب شرائح الدخول، قد يكون نص الدستور على كل هذا هو الطريق إلى إعادة توزيع الثروة عبر أدوات السياسة المالية العامة في مجالي الإنفاق والضرائب. لكن الحقيقة هي على خلاف ذلك، كما سنرى فيما يلي.
فما ينص عليه الدستور هنا في أغلبه، باستثناء تصاعدية الضرائب بالأساس، وهي مسألة سنتحدث فيها لاحقاً، هو التزامات على الدولة وليست على رأس المال. بعبارة أخرى: يفرض هذا الدستور على الدولة التزامات لتحقيق قدر أكبر من العدالة الاجتماعية، لكنه لا يفرض على رأس المال أي التزام حقيقي لتمويل التزامات الدولة المتضخمة في مجال الإنفاق الاجتماعي. وهو في هذا أمين لمنطق داخلي يتخلل ثناياه، وهو تبني نظام السوق الحر واعتباره قدساً للأقداس لا يمكن المساس به أو الاقتراب منه.
لكن لما كانت الدولة في عصر السوق الحر ليست مالكة للثروة أو منتجة اقتصادياً، وإنما مقيد دورها بتحويل الدخل من طبقة إلى طبقة عبر أدوات السياسة المالية والنقدية، فإن السؤال يصبح: وكيف إذن ستمول الدولة التزاماتها المتضخمة بنص الدستور مع امتناع هذا الدستور نفسه عن إجبار رأس المال على التنازل عن جزء من عائده، ربحاً أو ريعاً أو فائدة، لتمويلها؟
الضرائب التصاعدية
هنا تقفز الإجابة النمطية: من خلال الضرائب. فمع النص على أن الضرائب التصاعدية هي إحدى أدوات السياسة الضريبية لأول مرة في مشروع دستور 2013، قد يرى البعض أنه من المتوقع أن يمول رأس المال، من خلال الضرائب التي سيدفعها، التحسين الذي تفترضه الحقوق المنصوص عليها في الدستور في مجالات كالصحة والتعليم والحد الأدنى للأجر وغيرها.
لكن الحقيقة أن هذا أمر ليس له أي سند من واقع أو منطق. فتقرير البنك الدولي الأخير عن معدلات الضريبة المدفوعة في البلدان المختلفة يقول إن معدل الضريبة الكلية المدفوعة على الأرباح في مصر يصل إلى 13.2%، بينما يصل مثيله على العمل إلى 25.8%، أي أن العمل يدفع نسبة أكبر بكثير من عائده كضرائب إذا ما قورن برأس المال. هذا طبعاً مع الوضع في الاعتبار أولاً أن عائد العمل في مصر يتراجع، تقريباً بشكل متواصل، منذ عام 1980 وحتى اليوم (حيث تناقص من 36.2% في 1980-1981 إلى 25.4% في 2006-2007)، وثانياً، وكبديهية، أن عائد العمل يختلف في طبيعته نوعياً عن عائد رأس المال، فالأول هو وسيلة للعيش والثاني هو وسيلة للتراكم والإنفاق الترفي. وهذا معناه أن واقع الحال في مصر هو أن الممول الضريبي الأكبر، من ثم ممول البرامج الحكومية الاجتماعية الأكبر، هو أصحاب قوة العمل، وذلك رغم أن دخلهم الضئيل لا يمكنه الوفاء ، في أغلب الأحيان، بضروريات الحياة، ورغم أن نسبتهم من الدخل القومي كانت تنخفض بشكل مطرد على مدى الثلاثين عاما الماضية.
فهل ستغير مادة ضعيفة وغير مفصّلة تقول إن "الضرائب على دخول الأفراد تصاعدية متعددة الشرائح وفقاً لقدراتهم التكليفية" من هذه الأوضاع المتدهورة؟ الحقيقة أن هذا أمر ليس فقط مستبعداً، بل في حكم المستحيل. فتوازن القوى الراهن بين العمل ورأس المال، كما نراه جميعاً على الأرض، سيفرض نفسه عند تفعيل هذه المادة في صورة قانون ضريبي. لا يرجع هذا فقط إلى ما هو مثبت من ميل الدولة بشكل متعاظم على مدى السنوات الخمسة عشرة الأخيرة إلى تحبيذ أداة الضرائب غير المباشرة كضريبة المبيعات – وهي الضريبة المعادية للعدالة الاجتماعية كما هو معروف – كأداة رئيسية من أدوات الجباية، بل يرجع كذلك إلى كون تجربة مصر مع الضريبة التصاعدية كانت مخزية وغير ذات معنى، بحيث أصبحت الضريبة التصاعدية مجرد أداة رمزية لا قيمة لها لاتساع الشرائح وتفاهة الزيادة في السعر. من هنا فإن التوقع المنطقي هو أن النص الدستوري على تصاعدية الضرائب سوف يُترجم إلى قانون لا يغيّر كثيراً من واقع توزيع العبء الضريبي بين العمل ورأس المال، ناهيك عن كونه قادراً على إحداث تغيير حقيقي في هيكل توزيع الدخل في المجتمع.
العمل في مواجهة رأس المال
فإذا كانت الضريبة التصاعدية المنصوص عليها دستورياً لن تكون أداة لكبح رأس المال، أو بالأحرى للاقتطاع من أرباحه لمصلحة إنفاق اجتماعي يساهم في إعادة توزيع الدخل بشكل أكثر عدالة، فما هي الأدوات الأخرى التي يمكن التأمل في قيامها بكبح رأس المال؟ يقول التاريخ الاجتماعي للصراع بين العمل ورأس المال إن أداة أخرى من أدوات كبح رأس المال كانت قوة العمال والمؤسسات الناظمة لهم، تلك القوة التي تتجلى في شكل نضال اقتصادي يتوّج بتفاوض بين طرفي العملية الإنتاجية يؤدي، إن توفرت القوة الكافية للعمال، إلى تعظيم عوائد العمل على حساب رأس المال.
هنا نأتي إلى قضية جوهرية تتعلق بآليات رأسمالية السوق الحر في تحديد نتاج التوازن بين عنصري العمل ورأس المال في مجال توزيع الثروة والدخل. فالثابت أن مصر، وغيرها من البلدان، كانت تعتمد على دور كبير للدولة، كسلطة متحكمة، في تحديد نتاج هذا التوازن في ظل نموذج رأسمالية الدولة الذي كان متبعاً في عصر عبد الناصر وبدايات عصر السادات. آنذاك كانت الآليات التحكمية – المبنية على سلطة وانحيازات الدولة – هي التي تلعب الدور الأكثر أهمية، ولكن ليس الوحيد، في تحديد عوائد كل من العمل ورأس المال. بمعنى آخر: كانت الدولة، من خلال قراراتها التحكمية، تفرض سقفاً على تراكم وأرباح رأس المال الخاص، وتنزح الفوائض من قطاع إلى قطاع، ومن الريف إلى المدينة، ومن رأس المال إلى العمل. أما مع اتباع سياسات السوق الحر، ثم مع تعاظم دور هذه السياسات خلال السنوات العشرين الماضية، فقد أصبح عائد كل من العمل ورأس المال يتحدد ليس بالأساس من خلال آليات تحكمية من جانب الدولة، بل من خلال آليات السوق الحر نفسها، وهي الآليات التي تتضمن إلى جانب التوازن الاقتصادي السوقي، نتائج الصراع بين عنصري العمل ورأس المال في مواقع العمل ومن خلال المؤسسات النقابية والتنظيمات العمالية.
ولما كنا نعلم جميعاً أن التوازن السوقي في ظل رأسمالية المحاسيب الاحتكارية المصرية ينحو بشكل هائل إلى تعظيم عوائد رأس المال على حساب عوائد العمل، ولما كنا نعلم كذلك أن مؤسسات التنظيم العمالي المصري إما متواطئة مع الدولة تماماً وخارجة من عباءة الكوربوراتية الناصرية (الاتحاد العام لعمال مصر)، أو ضعيفة وهشة وغير ممثلة إلا لقطاع عمالي صغير (الاتحادات المستقلة الجديدة)، فإنه من المتوقع أن نتائج آليات السوق و/أو الصراع والتفاوض بين عنصري العمل ورأس المال ستمثل استمراراً وتعظيماً لغبن العاملين بأجر ولتحبيذ مصالح رأس المال وأرباحه على أي مصالح.
وهنا فإنه لمن الأمور ذات الدلالة أن دستور 2013 قد ألغى مادتين شديدتي الأهمية كانتا موجودتين في دستور 2012 ربما كانتا ستعوضان هذا اللاتوازن الفاحش في الواقع، ونعني بهما المادة الخاصة بإنشاء مجلس اقتصادي اجتماعي يضم ممثلي القوى العاملة يكون له صوت في مناقشة القوانين الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة على توزيع الدخل والثروة، والمادة الخاصة بالإبقاء على نسبة الخمسين بالمائة من العمال والفلاحين بالمجالس النيابية لدورة برلمانية إضافية. إلغاء هاتين المادتين اللتين كانتا ستلعبان، ربما، دوراً في تحسين الأوضاع التفاوضية للعاملين بأجر ومجمل الكادحين يعني – وبشكل لا يمكن التغافل عنه – نية مبيتة للتأسيس لغبن أكبر للقوى العاملة في مجالي توزيع الثروة والدخل.
فمغزى هاتين المادتين هو أن الدستور يعترف بأن كلاً من التوازن السوقي والتفاوض الجماعي المباشر بين نقابات العمال وممثلي رأس المال غير كافيين، بل غير مؤهلين، في الحالة المصرية، المتسمة بالضعف البادي في منظمات العمال، لأن يحققا تعديلاً في توزيع الدخل بين الطرفين لمصلحة العمل، وهذا ما استدعى أن يجبر الدستور هذا الوضع بإنشائه لمؤسسة (هي المجلس الاقتصادي الاجتماعي) تضم بين أعضائها ممثلين للطبقات العاملة والمنتجة تكون مهمتها مراجعة القوانين المتعلقة بالشئون الاقتصادية والاجتماعية ومتابعة أوضاع العدالة الاجتماعية، وبفرضه لحصة (كوتا) للعمال والفلاحين في المجلس التشريعي.
لكن الذي حدث فعلاً، كما قلنا، هو أن مشروع دستور 2013 ألغى هذين النصين، مضعفاً بهذا أدوات تحقيق العدالة من خلال فرض وجود ممثلي الطبقات الكادحة في مؤسسات صنع التشريع والقرار الاقتصادي.
ضرب المتنفذين الاقتصاديين
مشروع دستور 2013 إذن لا يستخدم حتى المتاح في ظل سياسات السوق الحر – ضرائب تصاعدية جادة أو تقوية الشوكة التفاوضية لعنصر العمل – لكبح التدهور المتواصل الحاصل في حصة الطبقات العاملة من الدخل الاجتماعي. لكن ربما الأهم من ذلك هو "خيانة" الدستور لقواعد المنافسة الكاملة التي يتم الطنطنة بها صباح مساء بوصفها أحد مقتضيات رأسمالية السوق الحر. تم هذا ليس بطريقة الإفصاح المباشر الفج، فهذا فضلا عن سماجته وغبائه يستعدي "المواطنين" من حيث ليس هناك داع، بل بطريقة القبول الضمني بالبنيان الاحتكاري الذي يتأسس عليه الاقتصاد المصري.
فعدا كلمات جوفاء متعجلة عن ضمان قواعد التنافسية ومنع الاحتكار، نجد الدستور لا ينبس ببنت شفة عن إجراءات إيجابية لهدم الهيكل الاحتكاري السائد بالفعل في مصر، وهذا طبعاً أمر مفهوم، لأن أية محاولة لضرب الأوضاع المستقرة للرأسمالية الاحتكارية المصرية تعد بمثابة حرب شعواء على أكثر القوى تنفذاً في المجتمع المصري، وهي حرب لم يتخيل واضعو الدستور حتى أنهم بقادرين على دخولها، خاصة أن نسبة لا بأس بها منهم هم أنفسهم من الملاك المتنفذين أو من أصحابهم أو من عبيد عطاياهم.
أكثر النماذج فداحة هنا تتعلق، طبعاً، باقتصاد الجيش. ونحن هنا نتحدث عن اقتصاد الجيش وليس عن ميزانية الجيش التي ستظهر رقماً واحداً في موازنة الدولة. فميزانية الجيش هي ما تقدمه المالية العامة لتلك المؤسسة من مؤسسات الدولة من أموال للصرف على بعض أوجه نشاطها. أما اقتصاد الجيش فهو شأن أوسع بكثير، وهو يخص الجيش ليس كمؤسسة خدمية تتلقى الأموال من الدولة لتقدم للمواطنين خدمة الأمن والدفاع، بل كمؤسسة اقتصادية تمتلك هي نفسها مصانع ومزارع وأراض وعقارات وشركات توزيع وخدمات بلا حصر أو عدد.
مؤسسة الجيش الاقتصادية جزء من الاقتصاد المصري المدني في كل مجالاته ومناحيه، بل هي الجزء الأكبر حجماً والأكثر تميزاً بحكم وضعها المتنفذ في الدولة الذي يتيح لها الحصول على مدخلات إنتاجية بأسعار غير سوقية لا يمكن منافستها، وهو ما يعني بالتبعية أن أرباح مؤسسة الجيش الاقتصادية غير عادية، أو ما يطلق عليه super profits.
ليس هناك من شك أن أي دارس للاقتصاد، حتى من المنظور النيوليبرالي، سيعتبر أن هذه المؤسسة الاقتصادية تقف عقبة في طريق الشفافية والتنافسية في الاقتصاد المصري، بل هي العقبة الأكبر، ليس فقط لأنها، بطبيعتها، تعادي منطق التنافسية، بل لأن منطق عملها يغذي بلا انقطاع منظومة رأسمالية المحاسيب، الاحتكارية هي الأخرى، حيث يتحول اقتصاد الجيش، بتقاطعاته مع الدولة، إلى باب لرفع دائرة من الرأسماليين الأفراد إلى مصاف الاحتكاريين الكبار، فقط لأنهم ذيول لإمبراطورية الجيش يحصلون على مقاولات الباطن منها أو يشاركونها في تجارة الأراضي والعقارات وما شابه.
هذا القسم المهول من الثروة المصرية المحتجز في أيد غير تنافسية وغير شفافة يغذي ليس فقط رأسمالية المحاسيب، بل تدهور العدالة الاجتماعية أيضاً. الأرباح فوق العادية، في مقابل الأجور تحت العادية للعاملين في اقتصاد الجيش، لا يعنيان شيئا غير انعدام فج للعدالة، انعدام يتجاوز حتى منطق الرأسمالية النيوليبرالية التقليدية. لكن مشروع دستور 2013 لا ينبس ببنت شفة عن الموضوع، بل على العكس هو يحصن الجيش أكثر فأكثر حتى يصبح اقتصاده منيعاً على التدخل أو التفكيك لمصلحة "المواطنين".
وفي موازاة ذلك فإن مشروع 2013 لا يتحدى أياً من أسس تشكل واستمرارية الاحتكارات الرأسمالية التي تبلورت على مدى سنوات حكم مبارك. فلا ينصُّ مثلاً على ضرائب على المعاملات الرأسمالية أو على صفقات البورصة، ولا على قواعد محددة لتفكيك الاحتكارات، ولا على منظومة عدالة انتقالية في مجال الجرائم الاقتصادية التي ارتكبها موظفو دولة ورجال أعمال مرتبطون بدوائر النفوذ المباركية.
هذه وغيرها من الأمور غض الدستور الطرف عنها عامداً، ليس حتى لأنه محترم لقدس الأقداس المسمى بالسوق الحر، فليس في تفكيك إمبراطورية الجيش الاقتصادية أو حماية المنافسة وضرب الاحتكار أي تدنيس لهذا القدس، بل لأن مراكز القوى المتنفذة في هذا البلد لم تكن لتسمح بالمساس بأعز ما تملك: الثروة المكتسبة عبر النفاذ إلى شبكات الفساد والسلطة.
مسخ 2013 الدستوري
يمكننا أن نتحدث كثيراً عن البنيان النيوليبرالي لمشروع دستور 2013، يمكننا مثلاً أن نتحدث عن منح الرأسمالية الخاصة لحق التزام المرافق العامة أو عن النص على حماية الملكية الفكرية بكل صورها أو غيرها من الأمور، لكننا سنكتفي بهذا القدر، لنولي اهتمامنا في هذا القسم الأخير للطبيعة الهجينة للدستور.
فالحقيقة أن مشروع دستور 2013 يمزج بين نقيضين لا يمكن التوفيق بينهما على الأجل المتوسط، بالذات في ظل ضعف الاقتصاد المصري. فهو من ناحية يؤسس – أكثر من أي دستور سبقه – لاقتصاديات السوق الحر بوصفها أصل وأساس النظام الاقتصادي المصري، سواء من خلال تقنينه، كما قلنا، لحق القطاع الخاص في الحصول على التزامات المرافق العامة، أو من خلال نصه الصريح على اعتبار توازن الميزانية (أي السياسة الانكماشية) هدفاً من أهداف الاقتصاد، أو من خلال إقراره بحق الملكية الفكرية بدون أية موازنة لذلك بالنص على حق المجتمع في التمتع بإبداعات ومخترعات المبدعين والمخترعين، أو غيرها من الأمور، لكنه هو من ناحية ثانية يتضمن حقوقاً تنتمي بشكل ما، وبدرجة محدودة، إلى نموذج دولة الرفاهة التي ترفع من الإنفاق على مجالات كالصحة والتعليم.
السر وراء جمع هذين النقيضين بين دفتي نص واحد هو تحالف 30 يونيو ذاته. فقد اضطرت الظروف قوى الدولة القديمة إلى إشراك طرف ينتمي، بمعنى ما، إلى اليسار المجتمعي في السلطة الناجمة عن مظاهرات 30 يونيو وانقلاب 3 يوليو. وقد نتج عن هذا مشاركة رموز لهذا اليسار في لجنة الخمسين التي أنيطت بها مهمة تعديل تعديل لجنة العشرة على دستور 2012. ونظراً لأن اليسار المجتمعي هذا يتبنى، ضمناً، اقتصاد السوق الحر، لكن مع إضافة توابل اجتماعية معينة، فقد كانت النتيجة هي إخراج دستور يحمي قلعة النيوليبرالية من ناحية الدفاع عن تحرير الأسواق وتشجيع رأس المال الخاص وتقليص الدور الإنتاجي التحكمي للدولة، لكنه يحاول تحسين آثارها من ناحية تعظيم إنفاق الدولة على الخدمات العامة.
لكن، الحق يقال، إن هذا الجمع بين نقيضين سوف ينجب مسخاً في الواقع. فكما أن الحدأة لا تلقي بالكتاكيت، فإن رأسمالية الأسواق الحرة وتشجيع رأس المال الخاص لا يمكنها (خاصة في عصر الأزمة الرأسمالية الحالية) تمكين الدولة المنسحبة من تمويل مجتمع رفاهة لا وجود له إلا في أذهان الحالمين بنسخ "التجربة الدنماركية" في الواقع المصري. إن لم تتم مراجعة رأسمالية السوق الحر، إن لم يتم تحديها، فإن المستقبل سيكون إمعاناً في إنعدام العدالة وفشل التنمية.